إيّاكم و الاختلاط.. مرّةً و ثانيةً و ثالثةً
غاية النّصح من الجزائر إلى الأحبة في السعودية
غاية النّصح من الجزائر إلى الأحبة في السعودية
محمد المهداوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين القائل:(( ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير)) و القائل أيضا:(( إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي)) ، وصلى الله على محمد و آله إمام الطيبين الطاهرين و بعد:
واقعُ الاختلاط اليومَ و ما يحيط به من وسائل إفساد واقعٌ أليم يتقطع له القلب حسرة و أسى، و تضيق به النفس همّا و غمّا ، يرتجف منه الجسد تارة وجلا و خوفا، و تارة أخرى كمدا و غيظا، يندى له الجبين وتبكي له العين دما لا دمعا .
قصدي من هذه النّصيحة الإسهام في تثبيت أهل الحق على حقهم وتذكير الغافل بالنعمة التي يتقلب فيها و هو عنها غافل ، ونُصحُ من سلك مسلك الداعين إلى خلاف الحق و هو يدري أو لا يدري ، والله وحده هو الهادي و الموفق وعلى الله وحده التكلان وهو سبحانه المستعان. أقول:
لم يقصد العلماء إلاّ خيرا:
لا ينبغي لأي عاقل يفكر تفكيرا سليما أن يفصِل الحديث عن الاختلاط و عن حكمه في الشرع عمّا يحيط به من بيئة و وسائل تُفضي إلى فساد عريض، لأن الحديث عنه في غير سياقه الواقعي يجعل منه حديثا مجردا عن المفاسد التي يجرُّها ويُحكم بالنهي عنه لأجلها، فيَضعُفُ تصُوُّر مفاسده لدى الناس و بالتالي يضعُفُ حكم النهي عنه عندهم، و هذا مدخل من مداخل مخالفة الحق، إذ كلما كانت المفاسد عظيمة كلما اشتدّ التحريم، وكلما كانت المفسدة بعيدة وجب التّحرُّز منها و اشتدّ الحذر من الوقوع فيها ؛ ولذلك يذكر العلماء، رفع الله أقدارهم، أنّ من أبواب الفقه و أصوله باب سد الذريعة، أي غلق السبل المؤدية إلى الحرام، و هذا بالضبط ما يقوم به العلماء و يُنال منهم بسببه و ليسوا في ذلك بمتشددين و لا متسلّطين بل هم ناصحون ينشدون الخير و السعادة للناس جميعا و ليس للمسلمين فحسب. و ينبغي التنبيه إلى أنه لا يمكن فصل الاختلاط عن باقي وسائل الفساد، والنظر إليه نظرة مجردة ممّا يحيط به من قنوات فضائية إباحية، ومواقع إلكترونية هابطة، ودعاوي إفساد ساقطة. فما عشناه و نعيشه يوميا من انحلال غير مسبوق هو نتاج اجتماع سبل الفساد تلك مع الاختلاط، و إن كان هو وحده كافٍ لجرّ منكر عظيم. و على هذا فإن الاختلاط ليس إلا مرحلة تنفيذية لما يُتلقى عبر تلك السبل المفسدة، و سيجعل التحوّل من العفة و الطهر إلى الخسة و الدناءة تحولا متسارعا يذر الحليم حيرانا.
فحديث العلماء و الناصحين عن الاختلاط إنما كان مبنيا على أدلة شرعية لم يَغفَلوا في النظر فيها عن الواقع و ما فيه من وسائل تجعل الاختلاط كشعلةِ نارٍ في وسطٍ يملئُه سائلٌ أو غازٌ سريع الاشتعال.
كما لم يغفلوا أيضا أن التساهل الذي يبدأ بسيطا و محدودا في بداية الأمر، و التنازل عن الحق و التفريط فيه، يُفضي حتما إلى المخالفة الصريحة لتعظُم المخالفة بعدها وعُمدَتُهم في ذلك أيضا فقه عزيز، فَهُم يعلمون أن من الفقه و أصوله أيضا : أن الدفع أولى من الرفع، أي دفع الضرر قبل حصوله و إن كان في ذلك مشقة أولى من العمل على رفعه بعد حصوله لأن المشقة في هذه الحال أعظم و قد يصاحبها من التوابع والآثار ما لا يزول إلا بزوال جيل.
لا دليل على إباحة الاختلاط بمعناه الذي فهمه العلماء و يدعو إليه دعاته:
الاختلاط بين الجنسين في المدارس و المعاهد و الجامعات و المؤسسات خاصة هو ما يدعو إليه بالتحديد دعاة الاختلاط و يجالدون من أجله، و يستشهدون لإباحته بالنقل و العقل، فلا النقل فهموا و لا العقل أعملوا. ولست بصدد الردّ الدّقيق فإنّ الحقّ أبلج، و لكن أقول أنّ الوصول إلى الحكم الشرعي له طرائقُه التي يعلمها ورثة الأنبياء من العلماء، و من ذلك ألاّ يُبتَر النصّ في مسألة ما كآية أو حديث عن سياقه الزمني أو المكاني أو إغفال باقي النصوص في المسألة إذ أنّ إعمال النصوص أولى من إهمالها ، كما أن من طرق الوصول إلى الحكم أيضا إدراك الواقع و تقدير المصالح و المفاسد.
أقول باختصار:
فرقٌ بين اختلاطٍ عابر أو عفوي و اختلاطٍ غير عابرٍ بل دائمٍ ممنهجٍ ومنتطمٍ كما هو الحال في ما ينشده دعاة الاختلاط متجاهلين الواقع الذي إن سُمِح فيه بالاختلاط كانت قاصمة الظَّهر وماحقة العفّة و الطُّهر. و ممّا يثير الدهشة أنّ من جملة ما يستشهدون به في الإنكار على منكري الاختلاط ، عفوا.. على منكري المنكر، أنّ مصطلح الاختلاط حادث و دخيل على الفقه الإسلامي، و ما علِموا أنّ دعواهم هذه تحمل بطلانها في طيّاتها، فالمصطلح غربيُّ النشأة غربيُّ الدلالة و المعنى، إذِ المقصود منه هو الاختلاط بين الجنسين في الدراسة و المِِؤسّسات لإزالة الفوارق بين الجنسين و حلِّ العُقد النفسية زعموا. فإذا فهمنا هذا أدركنا ما يعنيه و يَحذَرُه العلماء و يُحَذِّرون منه، و أنّهم لم يُحدِثوا هذا المصطلح من عندهم و لكن تعاملوا معه كما يتعاملون مع أي أمر حادث وِفقَ حدوثه و ما أُطلِق عليه من اسم يدلّ على مسمّاه، فالمخدّرات على أنواعها مثلا لم تكن معروفة من قبل على هذا النحو الذي نعرفه، غير أنه ما إن يُعرف نوع منها و يسمّى يدلّ ذلك على مسمّاه فيأخذ حكم التحريم و يُتحدّث عنه باسمه و إن لم يكن له وجود من قبل، فكذلك م صطلح الاختلاط هو اسم يدلّ على مسمى و معنى و يُنبِئ بحال يفضي حتما إلى منكر عظيم، فالحكمة و العقل السليم يقتضيان استخدام ذات المصطلح الدّال على معناه في النهي عنه.
الاختلاطُ و طبع الإنسان و ما يُرافقُه من وسائل إفساد :
إنّ الدعوة إلى الاختلاط و الإنكار على من أنكره ، في ظلّ غياب الرقابة من الوالدين و ولاة الأمر، عواقبها وخيمة ، و أنا أتحدث من واقع ننام و نستيقظ على آثاره ، سأسوق شيئا من آثاره مجملة من دون تفصيل حتى لا تؤذيكم ريح الاختلاط النّتنة و ما صاحبها من وسائل فساد و إفساد داعمة.
أيها الأحبة،
إن ّمَثَل حديثي إليكم اليوم و أنتم في عافية من آثار الاختلاط التي نعيشها كمثل حديث واحد منكم انتقل في الزمن المستقبل سنوات ثمّ عاد إليكم منذرا و مُنبئًا عماّ شاهده من آثار للاختلاط إن أنتم تساهلتم فيه اليوم. و اذكروا دائما أنّ الخير الواحد يجلب أضعافا من جنسه، و أنّ الشر الواحد يجلب أضعافا من جنسه، فلا تُهَوّنوا من أي مخالفة ، فإنها تجر إلى ما هو أعظم منها و تُثمر حسرة و ندامة.
سأتناول موضوع الاختلاط من منطلق خبرة لأعرِّج بعدها على مراحل عاشتها بلادنا الجزائر، حتّى يظهر مدى التحول الذي وصلنا إليه و الله وحده نسأل العفو و العافية و الستر.
يتبع >>
التعليق