كتبتُ هذه المقامة لتلقي الضوء على الواقع وتقدم واجب النصح، والله الموفق .
المقامة الزمخشرية
حدثنا عمرو بن هشام الحميري قال: طرحتني النوى مطارحها حتى مثلت بقرية (زمخشر)، فرأيت فيها فارساً ملثماً قد زمخ الشر، فانسلّ من بين الجموع انسلالاً عجيباً، ثم وقف خطيباً وقال: أيها الناس ما لي أراكم معرضين، وبالمبطل معرِّضين، اعلموا أن ليس الإِبلُ كالشَّاءِ، ولا العِيدَانُ كالأَشَاءِ، فاستقيموا ولن تحصوا، وعمموا ولا تخصوا، فطَعْمُ الآلاء أَحْلَى مِن المَنّ، وهو أَمَرُّ مِنَ الأَلاَءِ عند المَنّ، فمن الناس من إِذا رأَى طُرَّةً من الحَرْب نَشَأَتْ، جَاشَتْ نفْسُه وجَشَأَتْ، فنعُوذُ باللَّهِ مِنَ المَرَازِبَة، ومَمَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ المَرَازِبَة، مَنْ أَرْطَبَ نَحْلُهُ ولَمْ يُرَطِّبْ، خَبُثَ فِعْلُهُ ولَمْ يَطِبْ، هُوَ فِي السَّلْمِ تِلْعَابَة، وفي الحَرْب تِرْعَابَة، يُفِيدُ الغَرَائِب، ويُفِيءُ الرَّغَائِبَ، نسي ما نَقَم اللّهُ من حَاطِب، وما كَادَ يَقَع فيه من المَعَاطِب، ألم تكن يتيماً فآوى، واشتهرت وأنت أخمل من ابن آوى، كأَنِّي لَهُم قَتُوبَة، وكأَنّ مُؤْنَتَهُم عَلَيَّ مكتوبة، وقد كَانَ عَصْرُ شَبَابِي، أَحْلَى مِنَ العَسَلِ الشَّبَابِي، ولكني بليت بقوم تَلَعَّبَتْ بهم القِفَارُ، وتَلَغَّبَتْهُمُ الأَسْفَارُ، لكمْ نَسَبٌ، وما لَكمْ نَشَبٌ، ما أَنْتُمُ إِلاَّ خَشَبٌ، أنسيتم من أَصْبَحُوا وعلى أَكتافهم يَلَبُهُمْ، وأَمْسَوْا وفي أَيدِينا سَلَبُهُمْ، لكنهم بهرتهم حضارة الغرب، وأعجبوا بالسلب والنهب، فنادوا: حَبّذَا تلك البِرَاثُ الحُمْرُ، والدِّمَاثُ العُفْرُ، فيا من استروح إليهم ليتَ لنا مَكَانَكَ رَغُوثاً، بل ليتَ لَنَا مَكَانَكَ بُرْغُوثاً، أنت المنادي: من كان في لِحْيَتِه كَثَاثَة، كان في عَقْلِه غَثَاثَة؟! ولكن لا عليكم فلا بُدَّ للنِّعاج، من الثُّؤَاج، والحمدُ لله علَى بلج الجَبِين، وثَلَجِ اليَقِين، لقد تصدروا الصحف وأَقبلوا فَوْجاً فَوْجاً، يَمُوجُ بهم المدادُ مَوْجاً، سبتهم نُعْجُ المَحاجِرِ، ودُعْجُ النَّواظِرِ، ونسوا: لقد أَتْحَفَك مَن أَتْفَحَك، ومن كانت أَمْوالُه مُتنازِحة، كانت أَحوالُه مُترَازِحة، فها أنا أبين لكم، وبالله أَستَفتِحُ، وإِيّاه أَستَنْجِحُ، أزف إليكم الخطب، والبسر والرطب؛ فما قُرِضَ الشِّعر المُنقَّح، إِلاّ بالذِّهن المُلقَّح، ويا من ينافح عن الحق ويناضل، ويرمي بسهامه كبد الباطل، جعلَك اللَّهُ أَعْمَرَ من نُوح ، وأَنْوَرَ من يُوح، فمن حَقِّ الأَشياخ، أَن لا يَجُولُوا جوْلَ الرِّخَاخ، وأن يتصدوا لمن أظهر صراخه، وأَخرج مِنْ صِمَاخِه صِمْلاخَه، ومن عاش في الدَّوَادِي، وما بَقِي مِن عُمُره إلاّ الدَّآدِي، فلبُه شابٌّ وفوداه شائبان، وهو لاعبٌ وقد جدّ به الدائبان، قد تبَيَّن فيه الدَّرَد، فأَطْعِمْهُ ما يُزْدَرَد، رَماه الحَرُّ بِصَيَاخِيدِه، والبَرْدُ بصَنادِيدِه، فنادى: أنا مع الجِيد الغِيد، فيَوْمُ لِقَائِهِنَّ عِيد، وكَم في تَفَاصِيلِ المُبَرَّد، مِن تَفْصِيلٍ فَرِيدٍ ومُفْرَّد، ونسي: من كثُرتْ مَفَاسِدُه ، ظَهَرَتْ مَسَافِدُه، ويفسد الرجل المجون، كما يفسد الماء الأجون، وأَسْعَدَ يَوْمَهُ إِسْعَاداً، مَنْ أَسْأَدَ لَيلَتهُ إِسْآداً، وهو منذ فارَقنا كالفاقِد، أُمِّ الواحِد، كنا نَحْمِله على الأَكْبَاد، فَضْلاً عن الأَكْتَاد، لأن الضَرْبَ بِالفَوالِيذ، غيرُ الضَّرْبِ بالفَوالِيذ، لسان حالهم: إِن جَعَلْتُم لَيلَتَكم ليلَةَ أَنْقَد، فَقَدْ وَصَلْتُم وكَأَنْ قَد، تَعَمَّمُوا بِالمَشَاوِذِ، وَتَرَبَّعُوا على المَنَابِذ، خَبُثَتْ منهم المَخَابرُ، فَمَشَتْ بينهم المآبِرُ، لم يسمعوا شهادة: هو عفيفُ الإزار، خَفِيفُ الأَوْزار، ومن لقّانا اللّهُ مَضِيرَه، وأَسْقانا ثَمِيرَه، ولكن لا يهمنّكم فكلُّ حبْرَة، بعدهَا عَبْرَة، وليس مِن الحُرُورِيَّةِ، أَن تكونَ مِن الحَرُورِيَّةِ، وإلا كنتَ كمن خَلَّدَه الحَصِيرُ، في الحَصير، وقَرَّبَ لك الناقمُ قَصْعَةَ الخَزِير، ونَظَر إِلَيْك نَظَرَ الخِنْزِير، وكنتَ شراًّ من أصحاب السبت، ومن المؤمنين بالجبت، لقد خضتُ إِليكم دَيْجُوراً، كأَنِي خُضْت بَحْراً مَسْجُوراً، أما لكم أسماع، إنما هي أقماع، اعلموا أن الأَوّل فاخِر، والآخَر داخِرٌ، احذر ممن هو دَاعِر، في كُلِّ فِتْنَةٍ ناعِر، ولا تَخْرُج عن دائرةِ الإِسلام حَتَّى يَخْرُجَ القَمَرُ عن دَارَتِه، ألا فافهموا لقد حَطَّمَنِي طُولُ مُمَارَسَةِ الأَسْفَارِ، وكَثْرةُ مُدَارَسَة الأَسْفَارِ، ورُبَّ رَجُل رَأَيْتُه مُسَفِّراً، ثم رأَيْتُه مُفَسِّراً، وما رَأَيْتُ شَجِيرَيْنِ، إِلاَّ سجِيرَيْن، ومن لف لفهم فكَمْ رَفَعُوا لهم العَمَار، وكم أَلَّفُوا لهم الأَعْمَار، نسوا مَن صِدْقُ قَوْلِه غفاري، وزَنْدُ وَعْدِه عَفَارِيّ، فغَوَّرُوا ساعَةً ثُمّ ثَوَّرُوا، واطمئنوا إلى من جاءَ فَخِيراً، ثم رَجَع أَخيراً، ولأَنْ تَطْرحك أهلُ الخير في المآخير، خَيْرٌ من أنْ يُصَدِّرَكَ أَهل المواخير، اللهُمَّ أَخْرِجني من هذه المَدَرَة، وخلِّصْني من هؤلاء المَدَرَة، أيها المبارك: إذا رَكِبْتَ الجَمّازةَ، فلا تَنْسَ الجَنَازة، وشَتَّانَ بينَ مُنازَلَة الرَّمَّازَة، ومُغازَلَة الرَّمَّازة، أَيُّها البائِس، ما أَنت إلاّ البائِس، كَم رُزْتُك رَوْزاً، فلم أَرَ عندَك فَوْزاً، كأَنَّك كِسرى مع جُلَسائه، في جُلَّسانِه، أو كمن نصب حبائله وبثّ غوائله، لسان حاله: بليتُ بأفعال جاريه، كأفعى حارية، ولكن لا تثريب؛ فالنَّاسُ أَجْناس، وأَكثَرُهم أَنْجاس، وإِذا جاءَ القَدَرُ لَم يُغْنِ المُنَجِّمُ ولا المُنَجِّسُ، ولا الفَيْلَسُوفُ ولا المُهَنْدِس، وقد رَأَيْتُ العَرَبَ حَرِيصَة، على وَقْعِ الحَرِيصَة، قَرَصَهُمُ البَعُوضُ قَرَصَات، رَقَصُوا منْهَا رَقَصَات، كأَنَّهُم في الإِبَاضِ، من فَرْطِ الانْقِبَاضِ، هادئهم إِن رَأَى مَطْمَعاً تَعرَّض، وإِن أطاب مطعماً تأرّض، ما كان سَبَبُ شِرَادِهِمْ وانْفِضاضِهِم، إِلاّ الثِّقَةَ بمَصَادِهِمْ وإِضاضِهِم، وإن فَاتَهُم الغَرَض ، فَتَّهُم الغَرَضُ، لقد كتبوا وكذبوا، وكذّب صاحب مليكة، كما كذّب أصحاب الأيكة، ونسوا المثل الأشم: رُبَّ نَقْطَةٍ بسِنِّ قَلَم، شَرٌّ مِنْ نَشْطَةٍ بِنَابِ أَرْقَم، إن خالف أحدهم صاحبه أوسعه سباًّ، وأسمعه تباًّ، ولكن ما الحيلة؟ قومٌ إذا جاعوا كاعوا، وتراهم سِباعاً، إذا كانوا شِباعاً، اعلم أنها لا تُغني عنكَ المُساجَعَه، إذا طُلِبَتْ منكَ المُشاجَعَة، والشّرائِعُ نِعمَ الشّرائِع، من وَرَدَها رَوِيَ، وإلاّ دَوِيَ، ولابُدَّ للفرْعاءِ من حَسَدِ القرْعاءِ، وغِمَارُ الغَوْغَاءِ، غُبَارُ البَوْغاءِ، رَايَتُهم عَلَى الهَوَانِ مُعَكَّفَة، كأَنَّهم حُمُرٌ مُؤَكَّفَةٌ، واحدهم هَمُّه في رَغِيفٍ، وغَرِيفٍ، حتى يجد من يُلقي عليهِ أَوْقَه، ثم يبركَ فَوْقَه، نسوا نص الميزان، وأن مَن عَرَفَ القُرْآنَ ، رَعَفَ الأَقْرَانَ، وإن قلتَ لأحدهم: تَعالَهْ ، يا أَرْوَغَ مِن ثُعالَهْ، غضب حتى الثمالة، وإن قلتَ: ليسَ مِنْ شَمائِلِي وشِمالي، أن أَعْمَلَ بِشِمَالِي، قالوا: تشدد الغالي، نفوا حضارة الأمةِ جملة، وتناسوا من في خَطِّه حَظٌّ لكلِّ مُقْلَة، كأنّه خَطُّ ابنِ مُقْلَة، وتجاهلوا مَن سيماه بالخير مؤذنة، والنفس بصلاحه موقنة، وصاروا يَفْزَعُونَ من الأنامِ، أشَدَّ ما يَفْزَعُون من الآثام، نسوا أن الموت لا تنجو منه الأسد في الآجام، والملوك في الآطام، ولكن لا غرو فلَيْسَ بِمَفْطُومٍ عن شِيمَة، مَفْطُور عليها في المَشِيمَة، هو بالشر مرصد، وباب الخير عنه مؤصد، والخائن حائن، لا ينفع فيه تأنيبٌ، ولا تأديب، والحر إلى الخير سابق، والعبد من مواطنه آبق، فلا تَمْشِ بالرِّيبَةِ مُهَيْنِمًا، ولاَ تَنْسَ أنَّ عَلَيْكَ مُهَيْمِنًا، وأصبح سالماً وأمس، (كأن لم تغنَ بالأمس)، ولا تعول على المنصبِ تعويلاً، فتقوى الله أحسنُ تأويلاً، والدنيا غدّارة غرّارة، ختّالة ختّارة، فميِّز الخبيث من الإبريز، والناكصين من أولي التبريز، واحذر مِن رِوايَةِ الهَرَّاء، عن الفَرَّاءِ، ولا تقبل الرغاء والثغاء؛ فإنك إن فتشتَ عما له من القرائح، فما له خابطٌ ولا ناطح، ولقد نصحتُ والله لكم وأعمقت الدروس؛ فلا مخْبأ لعطرٍ بعد عروس، أقول هذا وأستغفر الله .
قال عمرو بن هشام: فانطلقت وراءه أرقبه قائلاً: من أنت يا هذا الخطيب، الأديب الأريب، والله لكأني بك الزمخشري الفائق، عدتك الأساس وأنوار الحقائق، فرفع عن وجهه اللثام المغلِّس، فإذا هو شيخنا قنبس بن أبي العنبس، فقلتُ: جزاك الله خيراً جماًّ، وزادك علماً وغنما، ثم افترقنا .
قال عمرو بن هشام: فانطلقت وراءه أرقبه قائلاً: من أنت يا هذا الخطيب، الأديب الأريب، والله لكأني بك الزمخشري الفائق، عدتك الأساس وأنوار الحقائق، فرفع عن وجهه اللثام المغلِّس، فإذا هو شيخنا قنبس بن أبي العنبس، فقلتُ: جزاك الله خيراً جماًّ، وزادك علماً وغنما، ثم افترقنا .
التعليق