تشير دلالة مصطلح يوتوبيا (Utopia) إلى العديد من المفاهيم والمعاني المتعلقة بأحكام القيمة المطلقة والنسبية، ويشير المعنى العام إلى اليوتوبيا باعتبارها الحالة الصحيحة التي (ينبغي) أن يكون عليها الوضع السائد حالياً.
ويسود الفهم والاعتقاد بأن أصل كلمة يوتوبيا يعود إلى الفيلسوف الإغريقي أفلاطون، ولكن ما هو مؤكد وثابت أن الكاتب الانجليزي توماس مور هو أول من استخدم مصطلح يوتوبيا، والذي ورد عام 1515 م في تسمية روايته المتعلقة بالجزيرة الخيالية. وبرغم ذلك فهناك من يرى ارتباطاً بين مصطلح Utopia الانجليزي، ومصطلحات الإغريقيين القدماء: مصطلح أوتوبوس (Ou-topos) ومعناه اللامكان، ومصطلح إيوتوبوس (eu-topos) والذي يعنى مكان الخير والفضيلة.
وقد ارتبط هذان المصطلحان الإغريقيان بكتاب «المدينة الفاضلة» الذي ألّفه الفيلسوف اليوناني أفلاطون، بحيث أصبح الكثيرون يربطون بين مضمون جمهورية أفلاطون، وفكرة اليوتوبيا.
وقد ارتبطت اليوتوبيا بحركة الفكر الإنساني، وحاول الكثير من المفكرين والفلاسفة بناء اليوتوبيات، باعتبارها النموذج الأمثل الذي يجب أن تسعى الإنسانية إلى تحقيقه، ويمكن تقسيم هذه اليوتوبيات على النحو الآتي:
- يوتوبيا الفلسفة: وتقوم على الافتراض الفلسفي الذي يستند على حركة الذهن التجريدية في عملية بناء النماذج الافتراضية، ومن أبرزها: جمهورية أفلاطون، دولة المدينة لأرسطو، والمدينة الفاضلة للفارابي.
- يوتوبيا الدين: وتقوم على الربط بين الوسيلة والغاية، بحيث تكون طاعة الدين هي الوسيلة الإلهية اليوتوبية، وتمثل فكرة (الجنة) اليوتوبيا الدينية التي يسعى إلى الوصول إليها كل المتدينين في هذا العالم.
واليوتوبيات الدينية ليست حكراً على اليهودية، أو المسيحية، أو الإسلام، فهناك أكثر من 100 كتاب مقدّس في هذا العالم، منها على سبيل المثال: كتاب الفيدا الهندوسي، والأفيستا الزرادشتي، وغيرها من الكتب الأخرى التي مازال بعضها موجوداً في الكثير من الأديان، مثل الكونفوشيوسية، والبوذية، والشنتوية. إن كل كتاب مقدس من هذه الكتب يبشر أتباعه بـ (جنة خاصة)، ويخيرهم بين حياة الشقاء، وحياة النعيم.
- اليوتوبيا الأيديولوجية: وتقوم على الربط بين الوسيلة والغاية، ولكن بشكل مادي، ومن أبرزها: (المجتمع الشيوعي) الذي بشّرت به الأيديولوجية الماركسية، و(المجتمع الرأسمالي) الذي بشّرت به الأيديولوجية الليبرالية.
لن تتوقف ثقافة اليوتوبيا، طالما أن (الحلم) كامن في أعماق النفس البشرية، وأيضاً لم يعد التبشير باليوتوبيا من مهمة الأديان والمصلحين الاجتماعيين فقط، بل أصبح الأمر يرتبط بالكيانات الدولية العملاقة، وها هي الكيانات الرأسمالية الكبرى تبشر الشعوب بـ (يوتوبيا) العولمة باعتبارها المخرج من الشقاء والمدخل لجنة النعيم والرفاهية والحياة السعيدة.
كل الشواهد تؤكد استحالة استغناء الإنسان نهائياً عن الحلم واليوتوبيا، والوقوف عند واقع بعينه، كما وتؤكد استحالة القضاء على كل ما في الروح الإنسانية من نزوع نحو التجديد والكمال. وهذا النزوع اللامتناه نحو الكمال هو الذي يجعل الوعي عاجزاً على الدوام عن الاقتناع أو التوقف أو الركون إلى واقع بعينه، آملاً بأنه لابدّ أن يرقى إلى ذلك الكمال الأقصى، الذي يخاطبه بلغة الرجاء والحلم، بالرغم مما يعتريه أحياناً من شك وتردد وارتياب.
سيظل الواقع الإنساني مهما تقدم، حقيقة غير ناجزة مكتفية بنفسها، مغلقة على ذاتها. فالعالم يظل ناقصاً من جهة طموح الإنسان، دون أن يحقق كفاية مقاصد الأخير اللامتناهية؛ إذ سرعان ما يجد الوعي الحر ثغرة في نسيج العالم القائم، ويجد نفسه مدعواً إلى التعالي على الوضع القائم، مؤمناً على نحو ضمني بإمكان عالم أكثر كمالاً يتجاوز النقص الموجود. فنراه يسلّط عليه نقداً قاسياً وينسب إليه كل تأخر وعجز ومحدودية، ممهّداً بذلك لفكرة جديدة. هكذا هو الحال بالنسبة للوعي اليوتوبي حين يؤمن بالتقدم المستمر واللامتناه. نفهم من ذلك أن هذا الوعي يظلّ قائماً على إيمان لامتناه بأنه في طريق مفتوح إلى كمال لايحدّه حد، وأنه صائر على نحو مستمر إلى التحكم بمصيره وبمستقبله.
إن عالماً أجمل وأفضل محتمل التحقق في زمن مقبل، يعدّ تعبيراً عن رغبة الإنسان إلى عالم مثالي وتنطوي هذه الرغبة على نقد ورفض ونزوع نحو تخطي العالم القائم. إنه سعي إلى صياغة العالم على نحو يتفق وتلك المقاصد الإنسانية. وهذه الثقافة هي التي تخلع على العالم القائم تلك الأهمية من القدسية والأبدية وحتى المعقولية، ومهما حاول أعداء المثالية طرد فكرة اليوتوبيا من الوعي البشري، بزعم الواقعية العملية السائدة، فإن الحاجة إلى اليوتوبيا تظلّ قائمة في صميم الوجود الإنساني.
------------------
بقلم : هند الرباط
مع خالص المودة والتقدير لكم أحبتي
ويسود الفهم والاعتقاد بأن أصل كلمة يوتوبيا يعود إلى الفيلسوف الإغريقي أفلاطون، ولكن ما هو مؤكد وثابت أن الكاتب الانجليزي توماس مور هو أول من استخدم مصطلح يوتوبيا، والذي ورد عام 1515 م في تسمية روايته المتعلقة بالجزيرة الخيالية. وبرغم ذلك فهناك من يرى ارتباطاً بين مصطلح Utopia الانجليزي، ومصطلحات الإغريقيين القدماء: مصطلح أوتوبوس (Ou-topos) ومعناه اللامكان، ومصطلح إيوتوبوس (eu-topos) والذي يعنى مكان الخير والفضيلة.
وقد ارتبط هذان المصطلحان الإغريقيان بكتاب «المدينة الفاضلة» الذي ألّفه الفيلسوف اليوناني أفلاطون، بحيث أصبح الكثيرون يربطون بين مضمون جمهورية أفلاطون، وفكرة اليوتوبيا.
وقد ارتبطت اليوتوبيا بحركة الفكر الإنساني، وحاول الكثير من المفكرين والفلاسفة بناء اليوتوبيات، باعتبارها النموذج الأمثل الذي يجب أن تسعى الإنسانية إلى تحقيقه، ويمكن تقسيم هذه اليوتوبيات على النحو الآتي:
- يوتوبيا الفلسفة: وتقوم على الافتراض الفلسفي الذي يستند على حركة الذهن التجريدية في عملية بناء النماذج الافتراضية، ومن أبرزها: جمهورية أفلاطون، دولة المدينة لأرسطو، والمدينة الفاضلة للفارابي.
- يوتوبيا الدين: وتقوم على الربط بين الوسيلة والغاية، بحيث تكون طاعة الدين هي الوسيلة الإلهية اليوتوبية، وتمثل فكرة (الجنة) اليوتوبيا الدينية التي يسعى إلى الوصول إليها كل المتدينين في هذا العالم.
واليوتوبيات الدينية ليست حكراً على اليهودية، أو المسيحية، أو الإسلام، فهناك أكثر من 100 كتاب مقدّس في هذا العالم، منها على سبيل المثال: كتاب الفيدا الهندوسي، والأفيستا الزرادشتي، وغيرها من الكتب الأخرى التي مازال بعضها موجوداً في الكثير من الأديان، مثل الكونفوشيوسية، والبوذية، والشنتوية. إن كل كتاب مقدس من هذه الكتب يبشر أتباعه بـ (جنة خاصة)، ويخيرهم بين حياة الشقاء، وحياة النعيم.
- اليوتوبيا الأيديولوجية: وتقوم على الربط بين الوسيلة والغاية، ولكن بشكل مادي، ومن أبرزها: (المجتمع الشيوعي) الذي بشّرت به الأيديولوجية الماركسية، و(المجتمع الرأسمالي) الذي بشّرت به الأيديولوجية الليبرالية.
لن تتوقف ثقافة اليوتوبيا، طالما أن (الحلم) كامن في أعماق النفس البشرية، وأيضاً لم يعد التبشير باليوتوبيا من مهمة الأديان والمصلحين الاجتماعيين فقط، بل أصبح الأمر يرتبط بالكيانات الدولية العملاقة، وها هي الكيانات الرأسمالية الكبرى تبشر الشعوب بـ (يوتوبيا) العولمة باعتبارها المخرج من الشقاء والمدخل لجنة النعيم والرفاهية والحياة السعيدة.
كل الشواهد تؤكد استحالة استغناء الإنسان نهائياً عن الحلم واليوتوبيا، والوقوف عند واقع بعينه، كما وتؤكد استحالة القضاء على كل ما في الروح الإنسانية من نزوع نحو التجديد والكمال. وهذا النزوع اللامتناه نحو الكمال هو الذي يجعل الوعي عاجزاً على الدوام عن الاقتناع أو التوقف أو الركون إلى واقع بعينه، آملاً بأنه لابدّ أن يرقى إلى ذلك الكمال الأقصى، الذي يخاطبه بلغة الرجاء والحلم، بالرغم مما يعتريه أحياناً من شك وتردد وارتياب.
سيظل الواقع الإنساني مهما تقدم، حقيقة غير ناجزة مكتفية بنفسها، مغلقة على ذاتها. فالعالم يظل ناقصاً من جهة طموح الإنسان، دون أن يحقق كفاية مقاصد الأخير اللامتناهية؛ إذ سرعان ما يجد الوعي الحر ثغرة في نسيج العالم القائم، ويجد نفسه مدعواً إلى التعالي على الوضع القائم، مؤمناً على نحو ضمني بإمكان عالم أكثر كمالاً يتجاوز النقص الموجود. فنراه يسلّط عليه نقداً قاسياً وينسب إليه كل تأخر وعجز ومحدودية، ممهّداً بذلك لفكرة جديدة. هكذا هو الحال بالنسبة للوعي اليوتوبي حين يؤمن بالتقدم المستمر واللامتناه. نفهم من ذلك أن هذا الوعي يظلّ قائماً على إيمان لامتناه بأنه في طريق مفتوح إلى كمال لايحدّه حد، وأنه صائر على نحو مستمر إلى التحكم بمصيره وبمستقبله.
إن عالماً أجمل وأفضل محتمل التحقق في زمن مقبل، يعدّ تعبيراً عن رغبة الإنسان إلى عالم مثالي وتنطوي هذه الرغبة على نقد ورفض ونزوع نحو تخطي العالم القائم. إنه سعي إلى صياغة العالم على نحو يتفق وتلك المقاصد الإنسانية. وهذه الثقافة هي التي تخلع على العالم القائم تلك الأهمية من القدسية والأبدية وحتى المعقولية، ومهما حاول أعداء المثالية طرد فكرة اليوتوبيا من الوعي البشري، بزعم الواقعية العملية السائدة، فإن الحاجة إلى اليوتوبيا تظلّ قائمة في صميم الوجود الإنساني.
------------------
بقلم : هند الرباط
مع خالص المودة والتقدير لكم أحبتي
التعليق