في الماضي والذكريات
ذكريـاتنا الناضجـة في اللاوعي ، المنتــصبة في المخفيّ من إدراكنا ، المحشــوّة في نخــاع أعـمــارنا ، هـي التي تقـود حقائقَ الضمائــروتستمـــرّ باللغــة وبالتعابـيــر في قسمــات الوجـوه ، وإرادة الأيــدي ،وامتــداد المسـافات ما بين الخطـوة والخطـوة،، فمـاهو إلا أن ترهـن روحـك لدى إطـراقـة كخـدرٍ لـذيذ ، حتى تعبـر بك الأطــياف الرغـدة فتنمـو في فكـرك كالسـحـر،، وتتقافــز كفراشات تتزاحم حول عينيـك ، أو كقطـيرات ألحان تنحشــر في أذنيــك ،ارمـش بجـفنيـك لـتغيير المشـاهد ، حـركّها إلى الأمـام أو الخلـف كيفـما أردت ، ثبّت ما أحببت واقرأ تفاصيـل التفاصــيل ، قـم تمـشّ في ردهـات ماضــيك ، وعـش أوقـاتك القـديمـة جداً ، في الطـرقات التي تعرفها وتعرفك ، أركـضْ مع الصبيّة ـ التي أحببتها يوماً ما ـ حـول بيوت القـرية ، بجنـون وضحكـات متناثـرة ، أنت تمسك بالريـحان في يديـها ، قطفتمـاه لجدتــها ، تحدّق في عينيها فتصبح عينـاك نهـاراًبـارداً ، تحتضــنها بخبثٍ بريء ، يعلـو صوت أمهـا تناديـها : يا .... فتنحنـي مبتعدةً عنـك ، عن حلــمك ، إلى خلف المـدى والرؤى والأمنيـات ، حرّك المشـهد لتطلّ على فتـى في السابـعة عشر من عمره قابعاً تحت شجرة سـدر عتيــقة منحنٍ على آماله ساهمـاً في السنيـن التي لم تأتِ بعد ، يجـفّف جراحاته بيقيــنه ، وسـحابات حزن ثمـلة تحـفّ به ، بمـا يحلـمُ يا تـرى ؟
ما لون عينيـه في ذلك الزمن ،والآن؟
قام الفتـى ورحـل في صـدر الأقـدار والفـجائع ، شكّــلته الأيـام وعواصف الشـكّ .. ثمّ تبدّد واختفـى ! وتتـوالى المشـاهد التلفزيــونيـة في صمتٍ زيـتيّ مغــرقةً وجــومك في سـطوع حضـرتها ، منكسـراً تتـابعـها تنـزفُ كل الأشيـاء منحـولك مع كلّ آهة لا إراديــة تطلقــها ، تنشـطر اشلاؤك وتتمزّق في الدروب والأمـاكن والوجــوه ....
أمّـا بعـد :
فهـا نحنُ نخـرج من عالـمٍ خمـريّ ،وخيـال أشبـه ما يكـون بـهاويـة نازفـة ، ننزوي في الواقع الثابت .. بحزنٍ مسفـوح وألمٍ ثائـر
ولا شيء ، لا شيء
إلا الغبار
وصــيّة شاعـر
ـ كان رجلاً طيّباً .. من محبّي الجمال .. يقطف الأفكـار من حدائـقِ روحـه المتـرعة بالأغاني الطازجـة ويقدّمها بيده الخشــنة للملتفّـين على حضـوره البهـيج من سفرٍ .. يقـومُ به دائمـاً كلـّما اشتـاق للمجـهول ـ هـكذا فقـــلْ حينـما تقفُ على قبـْري أمـام الجمـيع مؤبـناً .. واعلـمْ أنـهم حينمـا يميلون رؤوسهـم إلى قلوبـهم .. وتعلو ولولةُ النـساء .. عقبَ نفضِ غبـار قبـري عن الأيدي إنمــا يتأهبـون لاقتســام كعـكعة الفـرحة برحيــلي .. فــكنْ في منـأى عنْ أتـربـة الأزقـّة .. واسجـع بـما وهبــتُك إياهُ من نشـوة العـطر وانبثـاق النظـرات ...
شاعـرٌ .. شبحٌ أبيض
شاعرٌ حزينٌ أنا ، صارخ الألـم ، متوحّدٌ في أعضم انفجارات العاطفة مرارةً ، هذا صحيح ـ قال رادّاً على اتهاماتها ـ لكن الشعر وهو تحية الملائكة للنجوم ، شعلتي المقدسة التي أحملها طائفاً مدن الصمت وجزائر الإطراق ، لو انطفأت لخبت الشمس ، ولساد العالم بردٌ راجفٌ قارس ، إني أنا الحلم الذي يهبُ شعري للسماء زرقتها ، وللشهب توهّـج حضورها ، هاهي الأقمار تغفو على كتفيّ ، والعصافير تنبع من بين أصابعي ، لا يمكن أن تبصري ألئك المحتشدين لي على حوافّ الكون يحملون لافتات لأسمائي الحسنى ، وقصائدي الخالدة ،راكضين خلف ظلي في تشتت المجرات ..
مثبّتاً في منتصف الليل
بخشــــوع اللـــيلِ،وصمـتِ النجـــــوم توضّاتُ طــهركْ،عطّــــرتُ شغفــَ شفتيَّ باسمكِ الكــريم،وأعلنتُ بين يديك جهـلي بالسرّ الكبــير الذي تحمّــلتْ ثقلــه الحجــارة ، ما من شيءٍ بيني وبينكِ الآن ،بوسعـي أن أتنفّــسكِ .. وامتلئ بعطــر صدرك ،لا ريــح تعصفُ ما بيننا .. كلّ الرمال، من حولنا بذور تنبت أعشاب الحبّ وأشجار اللقاء ، هذه عيناكِ .. فتدفّقي أيتها الأنهــار ، وشفتاك .. فعودي إلى الأرض أيتها المجهولات ،لا أحد بيني وبينك ، آتيني قوة الأسرار ، سجع السماوات العلى ، وحكمة الأرضين المتــكئة على خرافة ثور ، هبيــني القــدرة على العـــودة إلى الـماوراء ، أن أكون نهـراً صغـيراً يـغازل عابـرةً على ضفافــه الخضـراء أو بستاناً بورودٍ ثقيــلةٍ على القطف .. ها أتأرجح بين يديك ، مخضّباً بحنّــاء الغروب .. أأدركتــني لذةالنوافل ! أم خـــــشوعْ الأغنيــــاتْ ! ؟ يااااااااااااااااااااااااااااه .. ياقدّيسة الحضــور الزاهي ، إني أتنفّــــــسكِ ، شامخاً باتجاهِ الــطوفان ..
قصيدة الذبــح
يهمّني أن أعـرف أن ذريف الـشعـر حين الإفـاقة من حلـمٍ خمـريّ، قد توقّّـف .. يهمّني كثيراً أن أعدّ الأبيات ثم أصفـّها شجراً وبشاراتٍ وأنواءاً تجلـبُ المـطـر ، والفرصـةَ بالخصب والسلام.هـكذا أنـا ، أعـدّ تفاعيــل القصيـدة .. بعد أن أخلطها بمـلح قلبي .. أنتزع من هنا شـعرةً سقطت فيها لأني ربّمـا فـركت عينيّ بيأسٍ مستحيـلْ .. ومن هنـا أعـفو أثـر خطـى لقطـيعٍ من النجـوم مـرت .. ولم تلقِ السلام ، أخلط الألوان ببعضها ليطــلع الصباح ويستوي على كتفي قصيدتي ، أغسـل عنـها أدران الهلـوسات والأحاجي الحداثيّة التي لا تصلـُها وجداناتهم المتقزّمــة ،أشياء هامّـة جداً تلك التي أفعلـها قبـل أن أنهـض واقفاً يقـطر دم الجـريـمة من مديـةٍ لم أمررها برفـقٍ على رقبة قصيدتي المذبوحــة .
شــعرية النــوم
يـــــــــــــــالعيـنٍ قتـلها وجـع السهـر .. ودمٍ يشــتبكُ والـحزنَ آخـرَ أطيــاف اليـقظة .. الآن أرتــل ما تبـّقى من آيـات الصـحو .. ثـمّ أتهيـّأ لـنرجـسِ الـروح ، أسقـيها حليب الأوراد اليـوميـّـة ، وشيـئاً من حكـايات نـهرٍ يـجري مابين شجـرِ الرئتين ... أرتـّبُ جـنازات الأوهــام ، اصفّـها إلى بعضـها ، وأكشــط شهقـتين اثنتيـن من خمـائل الذكـريات ، تضـعُ الشمسُ عطـرها متأهبــّةً للخـروج من وراء الجبــل البعيــد واضـعة نصب عينيـها البـحر ، حيـنها أكون قد أنهـيتُ آخـر إنـجازات الفـشل ... وسافـرتُ في ظنّ جاثٍ أشبـهَ ما يكـون بالنـوم ....
رسـائل أخرى
الرسالة الأولى
الرسالة الأولى
المرايا المـزهوّة بصورتها
المـزدحمة بتفاصيــل جسدها
لاتعيـر الواقفيـن أي اهتمـام
لم تعد تعكـس صورهم
أو تبـادلـهم قسمـاتهم
هي تحني ظهرها لكلّ متطلّع
تصـمت في كل وجهٍ متهنـدمٍ مصبـوغ
عابــرٌ ـ يعرف الحكايـة ـ أخبـرهم
أنّ امرأةً مرّت من هنا
أخفت سـرّ تبرجـها في المرايا
ورحلتْ
الرسالةالأخيـرة
أنت فتـنةٌ تنهضُ في السماء وتحتضـن الغيـوم
وأنا نـورسٌ يحصـد الأعـالي بأجنحــة الشـوق يتسكّع في أروقــةٍ رحبــة
مليئة بضوء باهر معطــر بأنفاسك ،
أتجه نحوكِ وتتجهين نحوي
ونلتقي خلف الألـــوان والترانيــم
والشهقات المحفـورة في حبّات الضـوء الخفيـفة
تعانقـنا راقصيــن ،
نذوّب بيننـا الماء والنور والنار ..
والكائنــات المـدركـة ..
والريــح ..
حتـى الشمـس
وهـي ترمقــنا غاربـة كنا نسـمع وقـع أنفاسـها
وهي تتبـادر إلى مملــكة عشقــنا معلنــةً الانتصـار لنا ..
وتـزرع لحــظاتٍ من الورد على جبهتيـنا المتلامســتين ...
ثم اتجهت إلى اللـيل بفـرح طفوليّ غامـر ...
أنا وأنتِ نفيضُ كالمطــر على كل ّالجهــات والمســارب
نملأ أخاديـد الأرض من حولنا ،
ونختلــط بالطيـن والحجـارة ،
ونبلّــل أوراق الأشجار ،
ونتقاطر من ثمارها وأزهارها ..
نعبر الجــروح التي تشعر بالعطـش ،
ونفتح نوافذ البحر على دمـنا الفائـر حبّـا وعشقــاً
ونرسو على شاطئ كل قلبٍ ينابيعاُ وقصائـد وأغاريــد وذكريات ..
** نشرت في دورية عبقر ، العدد الأخير ، الصادرة عن نادي جدة الأدبي
التعليق