ما نراه الآن، هو أن التيار المتطرف وجد نفسه - بعد الاكتشاف الأخير - محاصرا، وأيقن أن ما انتهجه من مهادنة، ورفعه لشعارات ذات طابع تسامحي، لم يعد مجديا. لقد أيقن أنه في مرحلة: إما حياة وإما موت. لهذا بدا شرسا في مهاجمته لأعدائه، من مفكرين وإعلاميين.
خلال السنوات الخمس الماضية، أُخِذَ المتطرفون على حين غفلة، وذلك عندما قام الجناح العسكري باستعجال المواجهة اضطرارا؛ بعدما تم اكتشاف الخلية الأولى في الرياض. الجناح غير العسكري للمتطرفين، لم يكن يتوقع، ولم يكن يريد، أن تتم المواجهة على هذا النحو من السرعة؛ لأن الإعداد للجهاد - في زعمهم - ما زال في مراحله الأولى، ومن الخطأ القيام بمواجهة مسلحة قبل الإعداد لها، وضمان مستوى معقول من التأييد الشعبي لها.
تلك الضربة الاستباقية لإحدى خلايا الجناح العسكري للمتطرفين، جعلتهم في حال الذي قبض عليه متلبسا بالجرم المشهود. ولذلك اضطربوا. فبعضهم جزع إلى درجة أن أعلن الهجوم الفكري على التيار المتطرف، وأدعى الاعتدال والمواطنة. وبعضهم لزم الصمت؛ انتظارا لما تسفر عن الأحداث؛ خاصة وأنه يملك شيئا من الأمل في قدرة الجناح العسكري على تفجير الأمن الداخلي، وبعضهم الآخر بدأ يطرح فكرة الصلح بين المتطرفين والدولة؛ حرصا منه على أرواح مريديه، الذين بذل شطرا كبيرا من حياته في إعدادهم، وليس حرصا منه على الوطن، فالوطن - في تصوره - ليس إلا وثناً، ولا بد - في سبيل تقرير العقيدة الصحيحة الصافية! - من تحطيم الأوثان!.
استمرت هذه التوجهات الثلاثة على طول فترة المواجهة السابقة مع الجناح العسكري للمتطرفين. ولأن المتطرفين في الجناح العسكري كانوا صريحين في الإفصاح عن المرتكزات الفكرية التي يتكئون عليها، وفي تحديد طبيعة المرجعيات الفكرية لهم، لم يكن أمام التيار المتطرف إلا أن يتخذ من التقية عقيدة مرحلة، ويكتفي بالدفاع عن نفسه، وأن علاقة منظومته الفكرية بالإرهاب علاقة شبهة؛ استغلها الإرهابيون، وليست علاقة تحقيق. ومن هنا بدأ يتجاهل مقولاته السابقة، ويدعي أنها كانت مقولات مرحلية؛ انتهت بانتهاء ظروفها.
من جهة أخرى، فالذين تبرعوا بالوساطة - للمصالحة - بين الدولة والإرهابيين، بقدرما ظهروا وكأنهم حريصون على السلام الاجتماعي، وعلى منع أي نوع من الاحتراب الداخلي، فضحوا أنفسهم. سعيهم للمصالحة بقدرما يشي بحرص على السلام الداخلي؛ يؤكد - في الوقت نفسه - علاقتهم الوطيدة بالإرهاب/ الجناح العسكري للمتطرفين. قد يتعامل الأمني مع هذا الواقع لغاية براجماتية. لكن، هذا لا ينفي حقيقة أحد من السيف، وهي أن الإرهابيين لم يكونوا ليثقوا به، لولا أنه من داخل التيار ذاته؛ على الأقل في مستواه الفكري.
لقد كان من المتعذر على الجناح السياسي/ الفكري للمتطرفين المحليين أن يبدأ بالهجوم، وأن يرفع صوته عاليا باتهام الآخرين. لقد كان يدرك وضعه الحرج جدا، كما يدرك درجة الحساسية الاجتماعية تجاه اللغة التكفيرية/ التصنيفية؛ جراء وقوع المجتمع تحت التهديد المباشر من قبل الإرهابيين. والمجتمع في هذه الحال؛ لم يكن لديه استعداد لسماع ما يذكي من نار التطرف التي أصابته على نحو مباشر. لكن، ذاكرة المجتمع الشفاهي قصيرة. فبمجرد تراجع العمليات الإرهابية، وانحسارها الظاهر، تراجعت تلك الحساسية تجاه أفكار التطرف والغلو، وأصبح بالإمكان ضخها في المجتمع من جديد.
لقد كانت الوضعية التي وجد التيار المتطرف نفسه فيها؛ جراء العمليات الإرهابية، هي التي حدّت من تصريحه بقناعاته الأصلية التي لا يستطيع التخلي عنها، وإلا تخلى عن هويته. إن لغة التنازل عن المقولات السابقة، أو تجاهلها، والاكتفاء بلغة بين بين؛ تحتمل أكثر من معنى، جعلت التيار المتطرف يظهر طوال الفترة السابقة في حال الدفاع عن النفس. لكن، هذا الدفاع المضمخ بعبير التقية، لم يكن قاعدة، وإنما كان استثناء.
وكما كانت الحال بعد حركة الإرهابي: جهيمان، عندما خفت صوت التطرف والغلو لسنتين أو ثلاث - لتغيب الواقعة عن الوجدان المباشر - ثم أعقب ذلك موجة حادة من التطرف الفكري الذي بدأ بالهجوم على مكونات المجتمع، وأقيمت - آنذاك - مجزرة الحداثيين، وأصبح التيار المتطرف، بعد عشر سنوات من واقعة الحرم، يكاد أن يستولي على المؤسسات المدنية كافة، فقد بدأ - الآن - التيار الفكري المتطرف في محاولة تشبه - إلى حد كبير - تلك الحال التي كانت في ثمانينيات القرن المنصرم.
لكن، ما حدث مؤخرا من اكتشاف الخلايا الإرهابية التي بلغ عدد أفرادها (271) أربك الجناح الفكري/ السياسي للمتطرفين أيما إرباك. إن هذا العدد الضخم، ومستوى الاستعداد، وطبيعة الأهداف، تؤكد أن الفكر الإرهابي أشد توغلاً واتساعاً مما كان يتصوره المتشائمون، كما يؤكد أن الإرهاب لم ينته بعد، وأن الحرب معه ليست حربا أمنية فحسب، بل هي بالدرجة الأولى فكرية، فهؤلاء يقاتلوننا، لا لأنهم يعشقون القتال، ولا لأنهم ون من أمر ما، وإنما يسوقهم إلى قتالنا، مجموعة من الأفكار المتطرفة التي أصبحت عقائد لهم، وهم على أتم الاستعداد للتضحية بأرواحهم في سبيلها.
لقد كان التيار المتطرف يريد - في مرحلة ما قبل اكتشاف الخلايا السبع - أن يقول: لماذا تضخمون الأمور ؟، هؤلاء الشباب مجرد مجموعات جاهلة، لم تفهم المنظومة التقليدية كما يجب، وهم مجرد أعداد قليلة، ضلت الطريق، ولا يعبرون عن روح المنظومة التقليدية، والدليل على ذلك انحسار الإرهاب كما ترون. التيار المتطرف يقول هذا الكلام، وهو يعلم أن مريديه متغلغلون في نسيجنا الثقافي والاجتماعي. لكنه كان يريد التخفيف من خطورة أفكار التطرف، ومن مستوى انتشارها؛ ليضمن لنفسه البقاء، بل والنماء. لقد كان ينتظر أن يتم تناسي الماسي التي تسبب بها طوال الفترة الماضية؛ ليعود من جديد لترتيب كوادره، ونشر أفكاره التي يهاجم بها - بلغة التكفير والتبديع والتفسيق - من لا يتفق معه في الرؤية المتطرفة للدين.
إذن، جاءت هذه العملية التي اكتشفت فيها هذه الخلايا، في الوقت الذي كان التيار المتطرف، بدأ فيه مرحلة الهجوم، ولكن على حذر، فكانت تأكيدا ماديا مباشرا على أن الإرهاب ليس مجرد استثناء في المنظومة التقليدية، استثناء عابر وخارج؛ كما يزعمون. الخلايا الإرهابية التي تم اكتشافها - بضخامتها وخطورتها الفائقة - كانت تؤكد على أننا لا بد أن نعيد قراءة الأفكار المتشددة في واقعنا، وأن إجراء تغييرات جذرية في البنية الفكرية، لم يعد ترفا، بل لم يعد خياراً؛ لأن الخيار البديل هو الانتحار بإيديولوجيا الإرهاب.
لقد كانوا يقولون: إنهم - أي الإرهابيين - مجرد أفراد، ولا يمكن مؤاخذة التيار المتشدد بأكمله لمجرد تطرف بعض أفراده، وحملهم السلاح. لكن، اتضح اليوم أنهم ليسوا مجرد أفراد، وإنما مجموعات ذات انتماء متمدد في عمق المنظومة التقليدية، وأن هؤلاء الأفراد من ورائهم تيار عريض، يمدهم بالغي وبالأموال الطائلة، بحيث يتمكنون من الصمود من جهة، والانبعاث الجديد من جهة أخرى.
صحيح أن خطأ فرد أو أفراد، من جماعة ما، لا ينسب إلى عموم الجماعة. لكن، استماتة تلك الجماعة في الدفاع عن الأفكار التي تمثل إيديولوجيا التطرف لهؤلاء الأفراد، يعني أنهم شركاء في الجريمة. لا يمكن تبرئة الجماعة من عمل الأفراد؛ ما لم تقطع الجماعة - فكريا - مع هؤلاء الأفراد، وتعلن توبتها الصادقة والصريحة من مفردات المفاصلة التي يتكئ عليها الإرهابي، التي تتدرج به - لا محالة - إلى دركات التكفير؛ فيصبح قتال الأهل: فريضة غائبة!.
يدعي التيار المتطرف أن الإرهابيين عددهم قليل، قياسا بعدد الإرهابيين من غير حملة السلاح، أو من المتشددين. وهذا تزييف متعمد؛ لصرف النظر عن طبيعة تكوّن الإرهابي. أنت تزرع عشرين أوثلاثين متطرفا؛ لتجني من هؤلاء إرهابيا واحدا. إذن، لولا هؤلاء لما كان هذا. ولا معنى لفصل هؤلاء المتطرفين عن التمظهر الإجرامي في صورة الإرهابي. الرصاصة القاتلة قبل أن تخترق الجسد، تمر بمراحل صناعية، وإعدادية للجريمة. وبدون هذه المراحل، لا يمكن للرصاصة أن تخترق الجسد. فتبرئة التيار المتطرف من الإرهاب المباشر، هي كتبرئة المسدس الذي تنطلق منه الرصاصة، أو اليد التي ضغطت على الزناد؛ لمجرد كونهما لم يخترقا الجسد، كما فعلت الرصاصة القاتلة.
محاولات التبرئة، هي جزء من محاولات التهدئة، كاستعداد للهجوم على كافة التيارات التي لا تتبع تيار التطرف في محدداته العقائدية، ذات الطابع التكفيري الصريح أو الضمني. ولعل التخفيف من خطورة التيار المتطرف، ومن حجم حضوره - كماً وكيفاً، هو أحد أهم الوسائل التي يتوسل بها هذا التيار للخروج من حالة الحصار الرسمي والاجتماعي التي يمر بها.
ما نراه الآن، هو أن التيار المتطرف وجد نفسه - بعد الاكتشاف الأخير - محاصرا، وأيقن أن ما انتهجه من مهادنة، ورفعه لشعارات ذات طابع تسامحي، لم يعد مجديا. لقد أيقن أنه في مرحلة: إما حياة وإما موت. لهذا بدا شرسا في مهاجمته لأعدائه، من مفكرين وإعلاميين. ولقد كان حظ الصحافة هو الحظ الأوفر من هذا العداء المتطرف؛ لأنها جمعت بين الفكرية والإعلامية، وكانت هي رأس الحربة في الحرب الفكرية على الإرهاب.
لقد لا حظنا في هذه الأيام شدة الهجوم على الإعلام، وعلى الصحافة خاصة، كما لا حظنا الهجوم الجاهل والحاقد على الليبرالية المحلية؛ لمجرد أن الدور الأكبر في مكافحة أفكار التطرف قام به هؤلاء، ونجحوا - على حد ما - في فضح وتعرية أفكار التطرف؛ بينما فشل الآخرون، رغم كل محاولاتهم البائسة؛ لأنهم لا يمتلكون القدرة على نقض خطاب من أساسه. لقد كان هؤلاء الآخرون، يصطدمون بنقاط التقاء كثيرة، فيما بينهم وبين المتطرفين، ولا يختلفون معهم إلا في تفسير المفردة العقدية أو في تنزيلها على الواقع. وهذا ليس خلافا ملزما، فلا يستطيعون أن يلزموا المتطرفين بتفسيرهم للواقع ولا بتفسيرهم للمفردة العقائدية. بينما يستطيع المتطرفون أن يلزموهم بالمفردة مجردة من التفسير الخاص والسياق الخاص. اليوم نرى ما يمكن تسميته: موسم الهجوم على الليبرالية، على نحو يذكرنا بهجومهم في الثمانينيات على الحداثة. وهم يتوقعون أن تكون نتائج هذا الهجوم صورة من نتائج ذاك الهجوم الغفوي، الذي جنينا من جرائه كل هذا التطرف؛ نتيجة التسليم له فيما مضى. هذا ما يخص الليبرالية على وجه العموم. أما حقدهم الملتهب على الصحافة، فهو يؤكد أن الصحافة كانت تقوم بدور فاعل في تعرية الأفكار المتطرفة؛ في الوقت الذي تقاعست فيها جهات أخرى، إهمالا، أو تواطؤا غير مقصود؛ جراء الجهل بخطاب التطرف.
محمد على المحمود / صحيفة الرياض
الخميس 23/4/1428هـ
خلال السنوات الخمس الماضية، أُخِذَ المتطرفون على حين غفلة، وذلك عندما قام الجناح العسكري باستعجال المواجهة اضطرارا؛ بعدما تم اكتشاف الخلية الأولى في الرياض. الجناح غير العسكري للمتطرفين، لم يكن يتوقع، ولم يكن يريد، أن تتم المواجهة على هذا النحو من السرعة؛ لأن الإعداد للجهاد - في زعمهم - ما زال في مراحله الأولى، ومن الخطأ القيام بمواجهة مسلحة قبل الإعداد لها، وضمان مستوى معقول من التأييد الشعبي لها.
تلك الضربة الاستباقية لإحدى خلايا الجناح العسكري للمتطرفين، جعلتهم في حال الذي قبض عليه متلبسا بالجرم المشهود. ولذلك اضطربوا. فبعضهم جزع إلى درجة أن أعلن الهجوم الفكري على التيار المتطرف، وأدعى الاعتدال والمواطنة. وبعضهم لزم الصمت؛ انتظارا لما تسفر عن الأحداث؛ خاصة وأنه يملك شيئا من الأمل في قدرة الجناح العسكري على تفجير الأمن الداخلي، وبعضهم الآخر بدأ يطرح فكرة الصلح بين المتطرفين والدولة؛ حرصا منه على أرواح مريديه، الذين بذل شطرا كبيرا من حياته في إعدادهم، وليس حرصا منه على الوطن، فالوطن - في تصوره - ليس إلا وثناً، ولا بد - في سبيل تقرير العقيدة الصحيحة الصافية! - من تحطيم الأوثان!.
استمرت هذه التوجهات الثلاثة على طول فترة المواجهة السابقة مع الجناح العسكري للمتطرفين. ولأن المتطرفين في الجناح العسكري كانوا صريحين في الإفصاح عن المرتكزات الفكرية التي يتكئون عليها، وفي تحديد طبيعة المرجعيات الفكرية لهم، لم يكن أمام التيار المتطرف إلا أن يتخذ من التقية عقيدة مرحلة، ويكتفي بالدفاع عن نفسه، وأن علاقة منظومته الفكرية بالإرهاب علاقة شبهة؛ استغلها الإرهابيون، وليست علاقة تحقيق. ومن هنا بدأ يتجاهل مقولاته السابقة، ويدعي أنها كانت مقولات مرحلية؛ انتهت بانتهاء ظروفها.
من جهة أخرى، فالذين تبرعوا بالوساطة - للمصالحة - بين الدولة والإرهابيين، بقدرما ظهروا وكأنهم حريصون على السلام الاجتماعي، وعلى منع أي نوع من الاحتراب الداخلي، فضحوا أنفسهم. سعيهم للمصالحة بقدرما يشي بحرص على السلام الداخلي؛ يؤكد - في الوقت نفسه - علاقتهم الوطيدة بالإرهاب/ الجناح العسكري للمتطرفين. قد يتعامل الأمني مع هذا الواقع لغاية براجماتية. لكن، هذا لا ينفي حقيقة أحد من السيف، وهي أن الإرهابيين لم يكونوا ليثقوا به، لولا أنه من داخل التيار ذاته؛ على الأقل في مستواه الفكري.
لقد كان من المتعذر على الجناح السياسي/ الفكري للمتطرفين المحليين أن يبدأ بالهجوم، وأن يرفع صوته عاليا باتهام الآخرين. لقد كان يدرك وضعه الحرج جدا، كما يدرك درجة الحساسية الاجتماعية تجاه اللغة التكفيرية/ التصنيفية؛ جراء وقوع المجتمع تحت التهديد المباشر من قبل الإرهابيين. والمجتمع في هذه الحال؛ لم يكن لديه استعداد لسماع ما يذكي من نار التطرف التي أصابته على نحو مباشر. لكن، ذاكرة المجتمع الشفاهي قصيرة. فبمجرد تراجع العمليات الإرهابية، وانحسارها الظاهر، تراجعت تلك الحساسية تجاه أفكار التطرف والغلو، وأصبح بالإمكان ضخها في المجتمع من جديد.
لقد كانت الوضعية التي وجد التيار المتطرف نفسه فيها؛ جراء العمليات الإرهابية، هي التي حدّت من تصريحه بقناعاته الأصلية التي لا يستطيع التخلي عنها، وإلا تخلى عن هويته. إن لغة التنازل عن المقولات السابقة، أو تجاهلها، والاكتفاء بلغة بين بين؛ تحتمل أكثر من معنى، جعلت التيار المتطرف يظهر طوال الفترة السابقة في حال الدفاع عن النفس. لكن، هذا الدفاع المضمخ بعبير التقية، لم يكن قاعدة، وإنما كان استثناء.
وكما كانت الحال بعد حركة الإرهابي: جهيمان، عندما خفت صوت التطرف والغلو لسنتين أو ثلاث - لتغيب الواقعة عن الوجدان المباشر - ثم أعقب ذلك موجة حادة من التطرف الفكري الذي بدأ بالهجوم على مكونات المجتمع، وأقيمت - آنذاك - مجزرة الحداثيين، وأصبح التيار المتطرف، بعد عشر سنوات من واقعة الحرم، يكاد أن يستولي على المؤسسات المدنية كافة، فقد بدأ - الآن - التيار الفكري المتطرف في محاولة تشبه - إلى حد كبير - تلك الحال التي كانت في ثمانينيات القرن المنصرم.
لكن، ما حدث مؤخرا من اكتشاف الخلايا الإرهابية التي بلغ عدد أفرادها (271) أربك الجناح الفكري/ السياسي للمتطرفين أيما إرباك. إن هذا العدد الضخم، ومستوى الاستعداد، وطبيعة الأهداف، تؤكد أن الفكر الإرهابي أشد توغلاً واتساعاً مما كان يتصوره المتشائمون، كما يؤكد أن الإرهاب لم ينته بعد، وأن الحرب معه ليست حربا أمنية فحسب، بل هي بالدرجة الأولى فكرية، فهؤلاء يقاتلوننا، لا لأنهم يعشقون القتال، ولا لأنهم ون من أمر ما، وإنما يسوقهم إلى قتالنا، مجموعة من الأفكار المتطرفة التي أصبحت عقائد لهم، وهم على أتم الاستعداد للتضحية بأرواحهم في سبيلها.
لقد كان التيار المتطرف يريد - في مرحلة ما قبل اكتشاف الخلايا السبع - أن يقول: لماذا تضخمون الأمور ؟، هؤلاء الشباب مجرد مجموعات جاهلة، لم تفهم المنظومة التقليدية كما يجب، وهم مجرد أعداد قليلة، ضلت الطريق، ولا يعبرون عن روح المنظومة التقليدية، والدليل على ذلك انحسار الإرهاب كما ترون. التيار المتطرف يقول هذا الكلام، وهو يعلم أن مريديه متغلغلون في نسيجنا الثقافي والاجتماعي. لكنه كان يريد التخفيف من خطورة أفكار التطرف، ومن مستوى انتشارها؛ ليضمن لنفسه البقاء، بل والنماء. لقد كان ينتظر أن يتم تناسي الماسي التي تسبب بها طوال الفترة الماضية؛ ليعود من جديد لترتيب كوادره، ونشر أفكاره التي يهاجم بها - بلغة التكفير والتبديع والتفسيق - من لا يتفق معه في الرؤية المتطرفة للدين.
إذن، جاءت هذه العملية التي اكتشفت فيها هذه الخلايا، في الوقت الذي كان التيار المتطرف، بدأ فيه مرحلة الهجوم، ولكن على حذر، فكانت تأكيدا ماديا مباشرا على أن الإرهاب ليس مجرد استثناء في المنظومة التقليدية، استثناء عابر وخارج؛ كما يزعمون. الخلايا الإرهابية التي تم اكتشافها - بضخامتها وخطورتها الفائقة - كانت تؤكد على أننا لا بد أن نعيد قراءة الأفكار المتشددة في واقعنا، وأن إجراء تغييرات جذرية في البنية الفكرية، لم يعد ترفا، بل لم يعد خياراً؛ لأن الخيار البديل هو الانتحار بإيديولوجيا الإرهاب.
لقد كانوا يقولون: إنهم - أي الإرهابيين - مجرد أفراد، ولا يمكن مؤاخذة التيار المتشدد بأكمله لمجرد تطرف بعض أفراده، وحملهم السلاح. لكن، اتضح اليوم أنهم ليسوا مجرد أفراد، وإنما مجموعات ذات انتماء متمدد في عمق المنظومة التقليدية، وأن هؤلاء الأفراد من ورائهم تيار عريض، يمدهم بالغي وبالأموال الطائلة، بحيث يتمكنون من الصمود من جهة، والانبعاث الجديد من جهة أخرى.
صحيح أن خطأ فرد أو أفراد، من جماعة ما، لا ينسب إلى عموم الجماعة. لكن، استماتة تلك الجماعة في الدفاع عن الأفكار التي تمثل إيديولوجيا التطرف لهؤلاء الأفراد، يعني أنهم شركاء في الجريمة. لا يمكن تبرئة الجماعة من عمل الأفراد؛ ما لم تقطع الجماعة - فكريا - مع هؤلاء الأفراد، وتعلن توبتها الصادقة والصريحة من مفردات المفاصلة التي يتكئ عليها الإرهابي، التي تتدرج به - لا محالة - إلى دركات التكفير؛ فيصبح قتال الأهل: فريضة غائبة!.
يدعي التيار المتطرف أن الإرهابيين عددهم قليل، قياسا بعدد الإرهابيين من غير حملة السلاح، أو من المتشددين. وهذا تزييف متعمد؛ لصرف النظر عن طبيعة تكوّن الإرهابي. أنت تزرع عشرين أوثلاثين متطرفا؛ لتجني من هؤلاء إرهابيا واحدا. إذن، لولا هؤلاء لما كان هذا. ولا معنى لفصل هؤلاء المتطرفين عن التمظهر الإجرامي في صورة الإرهابي. الرصاصة القاتلة قبل أن تخترق الجسد، تمر بمراحل صناعية، وإعدادية للجريمة. وبدون هذه المراحل، لا يمكن للرصاصة أن تخترق الجسد. فتبرئة التيار المتطرف من الإرهاب المباشر، هي كتبرئة المسدس الذي تنطلق منه الرصاصة، أو اليد التي ضغطت على الزناد؛ لمجرد كونهما لم يخترقا الجسد، كما فعلت الرصاصة القاتلة.
محاولات التبرئة، هي جزء من محاولات التهدئة، كاستعداد للهجوم على كافة التيارات التي لا تتبع تيار التطرف في محدداته العقائدية، ذات الطابع التكفيري الصريح أو الضمني. ولعل التخفيف من خطورة التيار المتطرف، ومن حجم حضوره - كماً وكيفاً، هو أحد أهم الوسائل التي يتوسل بها هذا التيار للخروج من حالة الحصار الرسمي والاجتماعي التي يمر بها.
ما نراه الآن، هو أن التيار المتطرف وجد نفسه - بعد الاكتشاف الأخير - محاصرا، وأيقن أن ما انتهجه من مهادنة، ورفعه لشعارات ذات طابع تسامحي، لم يعد مجديا. لقد أيقن أنه في مرحلة: إما حياة وإما موت. لهذا بدا شرسا في مهاجمته لأعدائه، من مفكرين وإعلاميين. ولقد كان حظ الصحافة هو الحظ الأوفر من هذا العداء المتطرف؛ لأنها جمعت بين الفكرية والإعلامية، وكانت هي رأس الحربة في الحرب الفكرية على الإرهاب.
لقد لا حظنا في هذه الأيام شدة الهجوم على الإعلام، وعلى الصحافة خاصة، كما لا حظنا الهجوم الجاهل والحاقد على الليبرالية المحلية؛ لمجرد أن الدور الأكبر في مكافحة أفكار التطرف قام به هؤلاء، ونجحوا - على حد ما - في فضح وتعرية أفكار التطرف؛ بينما فشل الآخرون، رغم كل محاولاتهم البائسة؛ لأنهم لا يمتلكون القدرة على نقض خطاب من أساسه. لقد كان هؤلاء الآخرون، يصطدمون بنقاط التقاء كثيرة، فيما بينهم وبين المتطرفين، ولا يختلفون معهم إلا في تفسير المفردة العقدية أو في تنزيلها على الواقع. وهذا ليس خلافا ملزما، فلا يستطيعون أن يلزموا المتطرفين بتفسيرهم للواقع ولا بتفسيرهم للمفردة العقائدية. بينما يستطيع المتطرفون أن يلزموهم بالمفردة مجردة من التفسير الخاص والسياق الخاص. اليوم نرى ما يمكن تسميته: موسم الهجوم على الليبرالية، على نحو يذكرنا بهجومهم في الثمانينيات على الحداثة. وهم يتوقعون أن تكون نتائج هذا الهجوم صورة من نتائج ذاك الهجوم الغفوي، الذي جنينا من جرائه كل هذا التطرف؛ نتيجة التسليم له فيما مضى. هذا ما يخص الليبرالية على وجه العموم. أما حقدهم الملتهب على الصحافة، فهو يؤكد أن الصحافة كانت تقوم بدور فاعل في تعرية الأفكار المتطرفة؛ في الوقت الذي تقاعست فيها جهات أخرى، إهمالا، أو تواطؤا غير مقصود؛ جراء الجهل بخطاب التطرف.
محمد على المحمود / صحيفة الرياض
الخميس 23/4/1428هـ
التعليق